عندما هبطت بنا طائرة «السعودية» قبل أسابيع في مطار جون إف كينيدي بمدينة نيويورك الأمريكية وردتني رسالة تحذير من وزارة الخارجية عن طريق الاتصالات السعودية، تبين لي فيما بعد أنها وصلت لجميع المسافرين إلى الخارج في الفترة الماضية.
جاء في هذه الرسالة: «إن ممارسة الأنشطة التطوعية أو الخيرية في الخارج بدون تصريح من المملكة والدولة المضيفة قد يعرضك للاعتقال والمساءلة من سلطات الدولة المضيفة ومن حكومة المملكة، مع تحيات وزارة الخارجية السعودية».
عادت بي الذاكرة إلى سنوات مضت وتحديداً إلى فترة ما قبل اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، عندما كنت طالباً في مدينة «سان دييغو» بولاية «كاليفورنيا»، وكنت أجتهد مع زملائي أبناء الجالية السعودية آنذاك من أجل جمع التبرعات لبناء «جامع» على مرأى ومسمع من الأمريكيين دون خجل أو معوقات تذكر.
وكان الشعب الأمريكي يقدر ويساند رغبتنا في امتلاك «مسجد» نمارس فيه شعائرنا الدينية التي يحترمها المجتمع الأمريكي كجزء من تركيبته «الليبرالية» التي تعتبر ممارسة كل شخص لدينه حقا لا مساومة عليه.
جاءت أحداث سبتمبر لتغير المعادلة كلها، ويتوقف زمن جمع التبرعات العشوائية إلى الأبد. وشخصياً لا أعتقد أن هناك حدثاً أساء للإسلام كما أساء له هجوم الحادي عشر من سبتمبر، الذي كان بمثابة انقلاب في تاريخ العلاقة بين الإسلام والغرب، وفي تاريخ «العمل التطوعي» تحديداً في الخارج وربما في الداخل أيضاً.
وقد حكى لي أحد الزملاء المسلمين الأمريكيين العام الماضي عندما زرت المركز الإسلامي في «سان دييغو» كيف أن التبرع للمسجد لم يعد بالسهولة التي كانت من قبل.
فهذا المسجد الكبير الذي بُني وتم تأسيسه بتبرعات الجاليتين السعودية والعربية المسلمة قبل سنوات لم يعد من السهل التبرع له من أجل إفطار «صائم» أو إجراء إصلاحات إلا وفق قواعد صارمة ورقابة دقيقة.
ولا ننكر أن الرقابة على «العمل الخيري» مطلوبة لكي لا يتم استغلاله في تمويل أعمال «إرهابية» أو على الأقل حتى لا تقع أموال «الخير» والتبرعات في أيدي من يعبث بها. ولكن يظل «العمل الخيري» جزءا أساسيا من ديننا الإسلامي الذي تعتبر «الزكاة» من أركانه الخمسة.
وتعتبر «الصدقة» من أدوات «الخير» التي يلجأ إليها المسلم للتقرب إلى الله عز وجل ووسيلة تكافل اجتماعي وإنساني لا غنى عنها حتى يرث الله الأرض.
لذلك فإن «العمل الخيري» لا بد أن يكون ولا بد أن يزدهر وأن يستمر وفق ضوابط شرعية وقانونية وتنظيمية داخل الوطن وخارجه. ومع قدوم شهر رمضان المبارك، وهو شهر الخير والإحسان.
أتمنى أن نلجأ جميعاً إلى إعادة التفكير في «مفهوم» العمل الخيري المرتبط لدينا فقط ببناء المساجد وإفطار الصائمين وتقديم الزكوات والصدقات بشكل عشوائي لكل من يقف على باب بيتنا حتى وإن لم يكن محتاجاً، وبطبيعة الحال هذه من الأمور النافعة و «إنما الأعمال بالنيات»، ولكن لا بد من ابتكار أوجه خير أكثر رحابة وتجديداً والتحري بشكل أكثر دقه،
والتفكير في حلول مختلفة لأوجه «العمل الخيري» مثل الإسكان الخيري وبناء المساكن الصغيرة وتجديد المباني القديمة للمحتاجين وتنظيف الطرقات والحدائق والمنتزهات وبناء معاهد تدريب وتأهيل وتقديم العون للمعوقين والمرضى وبناء المدارس وشراء السيارات للمعوزين وإطلاق سراح مساجين الحقوق المالية وتزويج الشبان والشابات وتقديم التطعيمات والخدمات الصحية وشراء الكتب وطباعتها.
وتقديم المنح الدراسية للطلبة وابتعاث بعض الطلاب المحتاجين المتفوقين وغيرها من الحلول الخيرية المتنوعة والمبتكرة، كل هذا وفق ضوابط وتحر دقيق. فالزكاة أو الصدقة أو أي أموال تستخدم في «عمل خيري» ويتم إهدارها بلا رقابة أو تنظيم أو في وجه روتيني غير مبتكر هي بمثابة ضياع لفرصة كان من الممكن الاستفادة منها للصالح العام.
وكل عام وأنتم إلى «عمل الخير» المنظم والقانوني والمبتكر والمختلف أقرب. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
الكانب: هشام كعكي
المصدر: صحيفة عكاظ